قصر خراش
أيقونة تختزل التاريخ
حيطان جامدة من الصخور السوداء تجمد الزمن من حولها، كل صخرة تصرخ بصمت الماضي لتسرد حكايتها للحاضر، وتستفز فرشة الخيال لتعبث بألوان المعاني على ألواح الخاطر بوهجها الأخاذ، وتكاد تسمع صدى ضحكات هارون الرشيد يخوض في برك القصر، ويغسل عن كاهله وعثاء السفر في أثناء استراحته القصيرة في قصر خراش وسط عاصمة الطريق، ثم ليتابع بعدها طريقه إلى الحج.
استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
عاصمة الطريق أو حمى فيد التاريخية الواقعة في الجنوب الشرقي من منطقة حائل، وهي تابعة لمحافظة الشنان، وتبعد عن حائل المدينة بنحو 110 كم، وعن بلاد القصيم بما ينوف عن المئتي كيلومتر، وهي المدينة التي تحتضن قصر خراش أو حصن فيد الأثري، وتعود إلى ما قبل الإسلام كما تثبت ذلك النقوش والكتابات المنتشرة في سفوح جبالها. ومدينة فيد كان لها مكانة عظيمة في العصر العباسي الأول، لدرجة أنها كانت تنافس الكوفة والبصرة بحضارتها وتعدادها السكاني، كما أن وقوعها المتميز على طريق زبيدة المشهور، ووقوعها في منتصف الطريق بين مكة المكرمة وبغداد عاصمة العباسيين أسهما إلى حد كبير في ازدهارها كمدينة عظيمة مرهوبة الجانب. وغدت من أهم المحطات التي يمر عليها الحجاج والمعتمرون ويستريحون بها، وينزلون بمنازلها، ويستظلون بأشجارها الوارفة، ويستسقون من قراحها، ويتزودون من سوقها المفتوحة بكل ما يحتاجون إليه من مؤونة وغذاء. وذكرها ياقوت الحموي على أنها منزل بطريق مكة وقريب من جبال طي. وسميت بفيد بفتح الفاء تيمنًا باسم فيد أو فائد بن حام بن عمليق حسب روايتي الكلبي والزجاجي، وسكنها بنو نبهان من طيئ الذين منهم الصحابي الجليل زيد الخير المعروف. وفي قصة إسلام زيد الخيل قال ابن إسحاق: «وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ، ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه زيد الخير، وقطع له فيدًا». وقد زارها ابن بطوطة عام 727 من الهجرة ووصف المدينة وحصنها بتفصيل، كما زارها عدد كبير آخر من الرحالة والمستشرقين. وكانت تقام في مساجدها الحلقات العلمية ويرتادها الكثير من العلماء، حتى إن بعضهم آثر الاستقرار بها بل نسب إليها كالعلاف مثلاً، وهو من شيوخ البخاري، رحمهم الله، الذي اشتهر بلقب الفيدي، كما أنها تشتهر بغطائها النباتي المتنوع. وتعد من أكثر المناطق خصوبة ووفرة في المياه في منطقة حائل قاطبة.. وقد تغنى بها الشعراء أمثال لبيد بن ربيعة الذي يقول:
بل ما تذكر من نوار وقد نأت
وتقطعت أسبــــــــابها ورمامها
مرية حلت بفيد وجــــاورت
أهل الحجاز فأين منك مرامها
ويقول مالك بن المرحل:
وتلك فيد قرية والمثل
في كعك فيد سائر لا يجهل
ويبدو أن فيد كانت تشتهر بصنع الكعك وتقديمه للضيوف، وهذه لعمري من دلائل التمدن والحضارة التي تمتعت بها فيد قرونًا عديدة.
ويقول الشماخ:
سرت من أعالي رحرحان وأصبحت
بفيد وباقي ليلها ما تجسرا
ويقول زهير بن أبي سلمى:
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم
ماء بشرقي سلمى فيد أو ركك
وقد نزل بفيد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، بجيوشه الجرارة وأقام فيها ما يقارب الشهر، وذلك عندما وجهه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لفتح العراق.
قصر خراش
وهو قصر حاكم المدينة على ما يبدو، ويعد من أبرز الاكتشافات الأثرية
في المملكة، ولا تزال أعمال التنقيب والحفر داخله وخارجه قائمة على قدم وساق لاكتشاف المزيد من القطع الأثرية والمباني المطمورة بالتراب والطمي، التي غالبًا ما تكون مجهولة المعالم. والقصر بني بالكامل من حجارة الحرة البركانية البازلتية المتوافرة بكثرة في المنطقة، وهي سوداء اللون خفيفة وصلبة شديدة التخرش.. وربما كان هذا سبب تسمية القصر بقصر خراش. والقصر يتوسط المدينة الأثرية ويحوي بين جنباته عددًا كبيرًا من الغرف والمجالس ومرابط الخيل. فيما تناثرت خارج القصر عشرات المباني الصغيرة التي تعود لأهالي مدينة فيد، فضلاً عن وجود عدد من الآبار المطوية والبرك المتسعة المتصلة بعضها ببعض بنظام دقيق من القنوات المائية. وقد عثر على الكثير من القطع الأثرية داخل القصر وخارجه من عملات معدنية وأوانٍ فخارية وخزفية يعود بعضها إلى القرون الإسلامية الأولى.
زيارة المنطقة
وقد تسنى لنا زيارة فيد التابعة لمحافظة الشنان، برفقة عدد من الإعلاميين والأكاديميين والمهتمين ضمن قافلة الإعلام السياحي، حيث حطت بنا الرحال في صباح يوم ربيعي جميل، أطلت فيه علينا وجوه قوم صبح، أصروا على إكرامنا بأريحيتهم، وبما لذ وطاب من طعامهم، ثم قام أحدهم لمرافقتنا في جولة داخل المدينة التاريخية، ودهشنا لغزارة علمه وفصاحة لسانه وكأنه يقرأ من كتاب. وأفدنا منه أيما إفادة، إذ كان دقيقًا في تقديم المعلومة، ولم يكن ممن يلقون الكلام على عواهنه. ودخلنا حصن فيد العتيق أو قصر خراش وتسمرت أعيننا إعجابًا وإجلالاً له، لروعة تصميماته، وهندسة مبانيه، ودقة إنشائه، خصوصًا أنه قد بني من أحجار بركانية غير منتظمة الأبعاد. وتوقفنا طويلاً نتأمل أبراجه التي تبقى شاهدة تروي بصمت ما تعاقب على هذه المدينة من أحداث جسام، وصدى صهيل الخيل وضرب حوافرها، وصراخ سعد بن أبي وقاص وهو يصدر الأوامر لجيشه تكاد تصم آذان ذاكرة المخيال. كما أدهشتنا البرك الثمان، وبركة الفسقية بأبعادها الهندسية التي تنم عن ذوق رفيع وحس مرهف يخاطب الحاضر، وثقافة حضارية يندر وجودها حتى في زمننا هذا. وكانت هذه البرك تستخدم للري وللاستحمام، كما أن صفوف أساسات أعمدة مسجدها الكبير تؤكد فرضية وجود مهندسين بارعين عاشوا في تلك الحقبة من الزمن، واستطاعوا بعبقريتهم استثمار ما توفر من مواد متاحة على بساطتها في منطقة الحمى وتسخيرها لبناء مثل هذا الصرح فائق الإتقان والجمال.